30 - 06 - 2024

وجهة نظري | مأساة ما بعد الزلزال

وجهة نظري | مأساة ما بعد الزلزال

رغم هول الكارثة وحجم المأساة لم يكن الدمار الذى خلفه الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا الإثنين الماضى سوى فصل البداية لكارثة أخطر ومأساة أعظم.

لم يكن الحزن الذى خيم على القلوب التي تابعت بألم ماخلفه الزلزال من دمار ينبيء بأن حزنا آخر سيأتى بعده وجع يفوق آلام الانهيار والفقد والعجز عن معرفة مصير فلذات الأكباد والأهل والأصدقاء والجيران.

لم يكن الناجون من الموت المتربص بفعل الزلزال أكثر حظا ممن ووريت جثثهم تحت الأنقاض بفعل قوته وحجم دماره .. ربما شعر بعض من كتبت له النجاة بأنه الأسوأ حظا وربما داهمه في لحظة قنوط ، شعور بحماقته لعدم إستسلامه للموت .. لم يكن محقا في مقاومته ، كان الأجدر أن يفتح ذراعيه لنهاية ربما تكون أكثر حسما ورحمة من تلك البداية المفتوحة على مجهول يفوق الموت خطورة وقبحا وألما.

تتلاحق صور الفاجعة أمام عينيه ، مايلبث أن يعود لصوابه يستغفر الله يحمده على نعمة الحياة يدرك أن ما خلقه الله ليس عبثا وأن لحياته هدف ومعنى لايعلمها غير الله ، وهو وحده من يحدد أجله فلا يسبقه إليه ساعة ولايتأخر عنه بأخرى.

يلتمس في مصير من حوله العزاء ، يوحدهم نفس المصير ، جميعهم عاش المأساة .. تجرع آلام الفقد ، مازال ينتظر بأمل واه نجاة حبيب وغال ، يعانى شعورا بالعجز ، ليس بيده سوى وجع الإنتظار .. ربما يتغلب آخرون بخطى متهورة لزيارة الأنقاض يلتمسون بشغف خبرا أو بشرى تعزى القلب ، تبث فيه بعضا من أمل بأن حبيا ما زال على قيد الحياة .. وتدفع الحاجة آخرين لزيارة بيوتهم التي لم تنهر بعد ، يدركون حجم المخاطرة وصرامة التعليمات والتحذيرات ، لكنهم يخالفونها بادعاء حرص مزعوم وإلحاح يحرض على الشفقة والتماس الأعذار والتغافل عن الخطر .. يدخلون بيوتهم المقفرة يبحثون عما يأوي أجسادهم ويحميها من الصقيع لا يقل شراسة عن كارثة الدمار ، يبحثون عن الستر والدفء والحماية ، بعدما صارت لديهم أغلى مما كانوا يحسبونه الأغلى والأكثر ضمانا للأمان والحماية ، فبعدما نفقد السكن والمأوى لايصبح لبريق الذهب نفس الوهج السحرى المؤثر في القلوب ، ولاتعد لتلك الأوراق التي يلهث لاقتنائها البعض نفس القيمة ، بعدما صارت للحياة إحتياجات أبسط وأعقد من أن تستطيع الأموال مهما بلغت ضخامتها ، تلبيتها وتذليلها والإتيان بها.

ملايين المشردين بعد الزلزال المدمر يقطنون الخيام ، يفترشون الأرض في الملاعب والمدارس والطرقات .. بلا سكن ولامأوى .. من خلفهم أنقاض حياة كانت شاهدة يوما على رغد العيش مهما كان شحيحا ، بعدما بات شظفه عصي على الاحتمال ، ومن أمامهم تمتد المأساة على مدد الشوف بملايين يشاركونهم نفس المصير.

يدركون أن لذاكرة الإنسانية حدود ، وأن يد العون التي تمتد الآن بسخاء وجود وكرم لا تلبث أن تعود بلا عطاء ، ليس بدافع من تقصير أو إهمال أو تغافل عن حجم المأساة فقط ، لكن ربما عن عجز أو قلة حيلة أو لضغط من سلطات أكبر ، لها دوما وجهة نظر فيمن يستحق المدد والعون والتعاطف ، تكيل كما عهدناها دوما بمكيالين .. تترجم سياسات قادتها بكل حرفية ومهارة ، تعطى لمن يرضى عنه قادة الدول المتحكمة في مصير العالم ومصير من عليه ، وتمنع من يغضب عليه هؤلاء مهما بدت مأساتهم عظيمة .. فلا يستحق العيش إلا من دار في فلك مصالحهم وهواهم.

لا تفلح تحذيرات الأطباء بالطبع في تغيير تلك السياسات ، نوقن جميعا أن لصوت الأطباء وتاثيرهم يصب دوما في صالح تلك السياسات لا العكس ، لا يروج إعلاميو الكون سوى لتلك الأصوات ، أما ما عداها فتذهب أدراج رياح مهما بلغت قيمة من يرددها.

هل يمكن للسياسات الدولية المستبدة أن تستمع لتحذيرات أطباء ينتمون لمؤسسات كبرى يحذرون من خطورة الوضع في مخيمات الإيواء ، والمأساة التي تهدد الملايين من قاطنى تلك المخيمات ، صقيع ، حياة غير آدمية ، قلة الغذاء والمياه ، افتقاد للمصارف الصحية ، تلوث ، حياة بلا آدمية تهدد بكارثة وبائية ، كوليرا متربصة وتيفود وغيرها ، خطر يهدد الجميع وبشكل أكثر يتربص بالأطفال ضعيفي المناعة ، من هنا جاءت المطالبات بضرورة مد هؤلاء الصغار بتطعيمات لازمة لتحصينهم ضد أمراض تهددهم بشكل خطير .. فهل من مستجيب !!

تبدو المأساة خطيرة ، خاصة بعدما تراجعت فرق الإنقاذ التي انتهت مهمتها لتحل محلها البلدوزرات التي ترفع الأنقاض .. لتبدو كارثية المشهد أكثر فداحة .. تحولت البيوت إلى أطلال لم يعد لساكنيها حتى مجرد أمل في زيارتها والبكاء عليها ، صار البكاء مضنيا حائرا على من تبكى المقل؟ على أحباب غادروا وأخذوا شغاف القلب معهم ؟ أم على مصير بائس ينتظر من يوصفون بأنهم الناجون !!

رحمة الله وحده هي ما يعلق هؤلاء عليها .. من أنقذ أرواح ظلت لأيام بلا طعام أو شراب وربما بلا هواء ، كتب لها النجاة بقدرته التي وسعت كل شيء ، وحده فقط من يتغمد هؤلاء برحمته وعطفه ، وييسر لهم أمورهم ويبدل لهم بعد ضيق مخرجا .. هو نعم المولى ونعم النصير .. عندما يخذلنا صوت الضمير الإنسانى وتصبح الغلبة لأصحاب المصالح التي تقود الكون كله بتغطرس ولاتدرك معنى الإنسانية ولا تفسرها إلا وفق هواها ومايحقق أطماعها ومصالحها.
---------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | إنسانية اللا عرب





اعلان